فصل: تفسير الآية رقم (183):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} أي من كان متوجهًا إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلًا به بالكلية، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال، ومن كان ناقصًا في دعوى محبته لم يكن مستحقًا لكمال محبته {فمن عفي له} من الأحباء والأصفياء {شيء} من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه. فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان. {فمن اعتدى بعد ذلك} الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء {فله عذاب أليم} فإن الكفر مرتعه وخيم {ولكم في القصاص حياة} الدارين والتقاء برب الثقلين {يا أولي الألباب} الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني {لعلكم تتقون} شرك وجودكم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (183):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أباح سبحانه الأكل مما خلقه دليلًا على الوحدانية والرحمة العامة والخاصة وكان من طبع الإنسان الاستئثار وكان الاستئثار جارًّا إلى الفتن، وأتبعه حكم المضطر وأشار إلى زجره عن العدوان بتقييده عنه في حال التلف فكان في ذلك زجر لغيره بطريق الأولى، وأولاه الندب إلى التخلي عما دخل في اليد من متاع الدنيا للأصناف الستة ومن لافهم، ثم الإيجاب بالزكاة تزهيدًا في زهرة الحياة الدنيا ليجتث العدوان من أصله، وقفي ذلك بحكم من قد يعدو، ثم بما تبعه من التخلي عن المال في حضرة الموت فتدربت النفس في الزهد بما هو معقول المعنى بادئ بدء من التخلي عنه لمن ينتفع به أتبعه الأمر بالتخلي عنه لا لمحتاج إليه بل لله الذي أوجده لمجرد تزكية النفس وتطهيرها لتهيئها لما يقتضيه عليها صفة الصمدية من الحكمة، هذا مع ما للقصاص والوصية من المناسبة للصوم من حيث إن في القصاص قتل النفس حسًا وفي الصوم قتل الشهوة السبب للوطء السبب لإيجاد النفس حسًا وفيه حياة الأجساد معنى وفي الصوم حياة الأرواح بطهارة القلوب وفراغها للتفكر وتهيئها لإفاضة الحكمة والخشية الداعية إلى التقوى وإماتة الشهوة وشهره شهر الصبر المستعان به على الشكر، وفيه تذكير بالضّرّ الحاثّ على الإحسان إلى المضرور وهو مدعاة إلى التخلي من الدنيا والتحلي بأوصاف الملائكة ولذلك نزل فيه القرآن المتلقى من الملك، فهو أنسب شيء لآية الوصية المأمور بها المتقون بالتخلي من الدنيا عند مقاربة الاجتماع بالملائكة، وختمها بالمغفرة والرحمة إشارة إلى الصائم من أقرب الناس إليهما فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فخاطب بما يتوجه بادئ بدء إلى أدنى الطبقات التي التزمت أمر الدين لأنه لم يكن لهم باعث حب وشوق يبعثهم على فعله من غير فرض بخلاف ما فوقهم من رتبة المؤمنين والمحسنين فإنهم كانوا يفعلون معالم الإسلام من غير إلزام فكانوا يصومون على قدر ما يجدون من الروح فيه- قاله الحرالي، وقال: فلذلك لم ينادوا في القرآن نداء بعدٍ ولا ذكروا إلا ممدوحين، والذين ينادون في القرآن هم الناس الذين انتبهوا لما أشار به بعضهم على بعض والذين آمنوا بما هم في محل الائتمار متقاصرين عن البدار، فلذلك كل نداء في القرآن متوجه إلى هذين الصنفين إلا ما توجه للإنسان بوصف ذم في قليل من الآي. انتهى.

.اللغة:

{الصيام} في اللغة: الإمساك عن الشيء، قال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير فهو صائم، قال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

وفي الشرع: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع في النهار مع النية.
{يطيقونه} أي يصومونه بعسر ومشقة قال الراغب: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله مع المشقة، وشبه بالطوق المحيط بالشيء.
{فدية} ما يفدي به الإنسان نفسه من مال وغيره.
{شهر} من الاشتهار وهو الظهور.
{رمضان} من الرمض وهو شدة الحر والرمضاء شدة حر الشمس، وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها.
{الرفث} الجماع ودواعيه، وأصله قول الفحش ثم كني به عن الجماع، قال الشاعر:
ويرين من أنس الحديث زوانيًا ** وبهن عن رفث الرجال نفار

{تختانون} قال في اللسان: خانه واختانه، والمخاتنة مصدر من الخيانة وهي ضد الأمانة، وسئل بعضهم عن السيف فقال: أخوك وإن خانك.
{عاكفون} الاعتكاف في اللغة: اللبث واللزوم، وفي الشرع: المكث في المسجد للعبادة.
{حدود الله} الحد في اللغة: المنع وأصله الحاجز بين الشيئين المتقابلين، وسميت الأحكام حدودا لأنها تحجز بين الحق والباطل. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{فديةٌ طعام} مضافًا {مساكين} بالجمع: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. وروى الحلواني والداري عن هشام والنجاري {فديةٌ} بالتنوين {طعام} بالرفع مضافًا إلى مساكين بالجمع. الباقون: مثل هذا إلا أن {مسكين} مفرد مجرور {فمن تطوع} بتشديد الطاء والواو وبياء الغيبة وجزم العين: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بلفظ الماضي من باب التفعل {القرآن} غير مهموز حيث كان: ابن كثير وعباس وحمزة في الوقف فإذا كان بمعنى القراءة فإن عباسًا فيه مخير إن شاء همز وإن شاء لم يهمز كقوله تعالى: {وقرآن الفجر أن قرآن الفجر} [الإسراء: 78] {ولا تعجل بالقرآن} [طه: 114] {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] {فاتبع قرآنه} [القيامة: 18] الباقون بالهمز {اليسر والعسر} حيث كانا مثقلين: يزيد إلا قوله: {فالجاريات يسرا} [الذاريات: 3] {ولتكملوا العدة} من التكميل: أبو بكر وحماد وعباس ورويس. والباقون: من الإكمال. {الداعي إذا دعاني} بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو جعفر ونافع غير قالون وأبو عمرو بالياء في الوصل. والباقون بغير ياء فيها في الحالين {في لعلهم} بفتح الياء: ورش. الباقون: بالسكون.

.الوقوف:

{تتقون} لا لأن {أيامًا} ظرف {الصيام} أو الاتقاء {معدودات} ط لأن المرض والسفر عارضان فكانا خارجين عن أصل الوضع {أخر} ط لأن خبر الجار منتظر وهو فدية فلا تعلق له بما قبله {مسكين} ط لأن التطوع خارج عن موجب الأصل {خير له} ط لأن التقدير والصوم خيرٌ لكم. {تعلمون} o {والفرقان} ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب {فليصمه} ط للابتداء بشرط آخر {أخر} ط {العسر} ز قد يجوز {تشكرون} o {قريب} ط لأن قوله: {أجيب} مستأنف {دعان} ص للفاء {يرشدون} o {لهن} ط {عنكم} ج لعطف الجملتين المختلفتين {لكم} ص لذلك {إلى الليل} ج وإن اتفقت الجملتان لأن حكم الصوم والاعتكاف مختلفان ولكل واحد شأن {في المساجد} ط لأن {تلك} مبتدأ {فلا تقربوها} ط لأن كذلك صفة مصدر محذوف أي يبين الله بيانًا كبيان ما تقدم {يتقون} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال في روح البيان:

{يا أيها الذين آمنوا} قال أصحاب اللسان يا حرف نداء وهو نداء من الحبيب للحبيب وأيها تنبيه من الحبيب للحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب للحبيب.
وقال الحسن إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فارفع لها سمعك فأنه لأمر تؤمر به أو لنهى تنهى عنه.
وقال جعفر الصادق لذة في النداء أزال بها تعب العبادة والعناء يشير إلى أن المحب يبادر إلى امتثال أمر محبوبه حتى لو أمره بإلقاء نفسه في النار. اهـ.
والصيام ويقال الصوم هو في اصطلاح الشرع: اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلاّ على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صيامًا كما قال العرجي:
فإنْ شِئتتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِوَاكُمُ ** وإِنْ شِئْتتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخًا ولاَ بَرْدَا

وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:
خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ** تحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلكُ اللُّجُمَا

وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب:
حتى إِذا سَلَخَا جُمَادى سِتَّة ** جَزْءًا فطَال صيامُه وصِيامُها

والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء: إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في الأساس وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى: {فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا} [مريم: 26] فليس إطلاقًا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: كان يومُ عاشُوراءَ يومًا تصومه قريش في الجاهلية وفي بعض الروايات قولها: وكان رسول الله يصومه. اهـ.
في موضع {كَمَا} ثلاثة أقول:
الأول: قال الزجاج موضع {كَمَا} نصب على المصدر لأن المعنى: فرض عليكم فرضًا كالذي فرض على الذين من قبلكم.
الثاني: قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها: كتب عليكم الصيام مشبهًا وممثلًا بما كتب على الذين من قبلكم.
الثالث: قال أبو علي: هو صفة لمصدر محذوف تقديره: كتابة كما كتب عليهم، فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال: ومثله في الاتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق: أنت واحدة، ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة، فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه. اهـ.

.قال البقاعي:

{كتب} أي فرض بما استفاض في لسان الشرع وتأيد بأداة الاستعلاء {عليكم الصيام} وهو الإمساك عن المفطر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بالنية وقال الحرالي: فرض لما فيه من التهيؤ لعلم الحكمة وعلم ما لم تكونوا تعلمون وهو الثبات على تماسك عما من شأن الشيء أن يتصرف فيه ويكون شأنه كالشمس في وسط السماء، يقال: صامت- إذا لم يظهر لها حركة لصعود ولا لنزول التي هي من شأنها، وصامت الخيل- إذا لم تكن مركوضة ولا مركوبة، فتماسك المرء عما شأنه فعله من حفظ بدنه بالتغذي وحفظ نسله بالنكاح وخوضه في زور القول وسوء الفعل هو صومه، وفي الصوم خلاء من الطعام وانصراف عن حال الأنعام وانقطاع شهوات الفرج، وتمامه الإعراض عن أشغال الدنيا والتوجه إلى الله والعكوف في بيته ليحصل بذلك نبوع الحكمة من القلب، وجعل كتبًا حتى لا يتقاصر عنه من كتب عليه إلا انشرم دينه كما ينشرم خرم القربة المكتوب فيها. انتهى.

.قال الفخر:

في هذا التشبيه قولان:
أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.
والقول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال: إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها:
أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يومًا من السنة، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في ذلك أيضًا، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشرًا، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعًا فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يومًا، وهذا معنى قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَابًا} [التوبة: 31] وهذا مروي عن الحسن.
وثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يومًا، ولهذا كره صوم يوم الشك، وهو مروي عن الشعبي وثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لابد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلًا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصًا برمضان، وأن يكون صومهم مقدرًا بثلاثين يومًا، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك. اهـ.